علمتني والدتي منذ بواكير عهدي بهذه الحياة أن الاحتفاء بالزمن والطبيعة هو من مقاصد توزيع الصلوات على كامل اليوم، وأن التعامل العلمي الجاف مع الظواهر الطبيعية غير كاف لوحده للامساك بعطاءاتها و إحالتها، وإأنه لغبنٌ للإنسان أن لا يتوقف مطولا عند مختلف صفحات سفر الجمال الكوني من حوله، وأن لا يعلن مهرجانا للحواس، و أن لا تتعالى في اللحظة ذاتها من شغاف القلب وتلا فيف الدماغ تسابيح لله الجميل محب الجمال ف «الجمال عبادة، والأرض مزدحمة بالكافرين» للأسف الشديد
وها إن الوالدة الكريمة تنصرف من أداء سنة الضحى، وتقبل علي باسمه المحيَا، وتضع بين يدي طبقا، وتبادرني بالقول:
لقد مضى من الضحى أغلبه، ولازلت منكبا على الكتاب الذي بين يديك منذ الفجر. فهل تراك عدلت عن الخروج إلى البراري و الأحراش، وتنازلت عن نصيبك من التمتع بجمال الطبيعة البكر؟ وعهدي بك عاقدا العزم على الخروج بمجرد أن تفتح الشمس آخر نوافذها.
- لا يا أماه ، فلئن كنت أشاطر إلى حد كبير نيتشه الرأي في قوله: « إن أعظم اللذات هي اعتلاء صارية المعرفة، والاتقاد بلهب يتلوه لهب»
و أعتبر أن وحدها المعرفة التي تفرق بين الرؤوس، فإنني مصرَ على أن أظل طوال حياتي مغموسا في الجمال، و رافضا العيش في هذا العالم بسذاجة وبلادة حس ووجدان، معتبرا أن ذلك بعض نصيبي الذي أنا مسؤول عن أي تفريط فيه، و لن أسمح للذين يريدون الاستئثار بكل شيء ايجابي من دون الناس منازعتي، وسلبي حقي منه، على درب السعي لأفضل حياة « وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا» .ولذلك فإنني عازم على أن أسبق الزوال إلى حيث كان في نيتي الذهاب.
سكبت في أحد الأكواب شايا ساخنا يتصاعد بخاره، وغمست فيه شريحة ليمون ودفعت به إلى يمناي قائلة: لعل هذا ينعشك، و يوقظ حواسك، ويطرد عنك مغالبات النعاس.
- سلمت يداك.
رفعت الكوب إلى شفتي، فحجبت سحابة من الضباب الرؤية عن عيني، و لامست بشرة وجهي أنفاس رقيقة لم أتبين في البداية مصدرها. ثم بدأت شيئا فشيئا أتبين ملامح صاحبة هذه الأنفاس الرقيقة الناعمة...إنها فتاة ذات ملامح اسياوية بصدد قطف أوراق شجيرات الشاي وترمي بها في كيس كبير خلف ظهرها. وتلاعب نسائم آخر غشي أطراف جدائل شعرها الفاحم المطلة من جوانب خمار ذي ألوان زاهية، وما انفكت عن الالتفات من حين لآخر نحوى باسمة الثغر، مشرقة العينين اللتين فيهما حور، يعاجلها الحياء فتسبل جفنيها، وتتفتح أكمام ورود وجنتيها مع بوادر بسمة جذلى على شفتين قرمزيتين، و إني لأراها تنتقل بحركات رشيقة في دروب الحقل متلقية تحايا النباتات من حولها، ومصغية لهمس النسغ المتدفق بعد قطف أوراق شجيرات الشاي. ولم يفتني أن أسجل تمايل أوراق الشاى، فرحة أن تكون نهايتها بين يدى حسناء، مفاخرة بذلك مثيلاتها النابتة على مصطبات الجزر اليابانية حيث تتولى قطفها آلات صماء خلو من دفء المشاعر الإنسانية، وبعيدا عن حسن الأنوثة وحيائها الشرقي اللذيذ.
وعلى إثر بلوغ رجع صدى آذان المغرب الآتي من بعيد، تتوقف الفتاة رافعة هامتها، وتمد بصرها إلى الأفق إلى حيث تمتد حقول الشاي مندمجة مع شقائق النعمان التي نثرتها شمس الأصيل في غيبتها وتخضب بها المدى.
و ترسل الفتاة أنفاسها الدافئة، تعبيرا عن تعب نهار طويل، فأجد أثرها على صفحة وجهي. وتفد إذاك على دماغي رسائل من البصيلات الذوقية في لساني معلنة عن طعم حموضة لا أتبين لها سببا. وإذ يتأكد الإحساس ويشتد حضوره في الذهن، أكتشف أنني كنت بصدد ترشف أولى قطرات الشاي الذي خالطه ما تسرب إليه من ليمون.
وإذا صوت أمي يطرق مسمعي:
أين كنت يا بني؟
فلا أجد في خاطري إلا أن أتوجه أليها سائلا: ذكريني يا أمي بالقائل « أن الفلاحين يحسنون فهم كلام الطبيعة».
- إنه ادونيس، أنسيته؟ وإنهم ليحسنون التحاور معها.
وها إن الوالدة الكريمة تنصرف من أداء سنة الضحى، وتقبل علي باسمه المحيَا، وتضع بين يدي طبقا، وتبادرني بالقول:
لقد مضى من الضحى أغلبه، ولازلت منكبا على الكتاب الذي بين يديك منذ الفجر. فهل تراك عدلت عن الخروج إلى البراري و الأحراش، وتنازلت عن نصيبك من التمتع بجمال الطبيعة البكر؟ وعهدي بك عاقدا العزم على الخروج بمجرد أن تفتح الشمس آخر نوافذها.
- لا يا أماه ، فلئن كنت أشاطر إلى حد كبير نيتشه الرأي في قوله: « إن أعظم اللذات هي اعتلاء صارية المعرفة، والاتقاد بلهب يتلوه لهب»
و أعتبر أن وحدها المعرفة التي تفرق بين الرؤوس، فإنني مصرَ على أن أظل طوال حياتي مغموسا في الجمال، و رافضا العيش في هذا العالم بسذاجة وبلادة حس ووجدان، معتبرا أن ذلك بعض نصيبي الذي أنا مسؤول عن أي تفريط فيه، و لن أسمح للذين يريدون الاستئثار بكل شيء ايجابي من دون الناس منازعتي، وسلبي حقي منه، على درب السعي لأفضل حياة « وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا» .ولذلك فإنني عازم على أن أسبق الزوال إلى حيث كان في نيتي الذهاب.
سكبت في أحد الأكواب شايا ساخنا يتصاعد بخاره، وغمست فيه شريحة ليمون ودفعت به إلى يمناي قائلة: لعل هذا ينعشك، و يوقظ حواسك، ويطرد عنك مغالبات النعاس.
- سلمت يداك.
رفعت الكوب إلى شفتي، فحجبت سحابة من الضباب الرؤية عن عيني، و لامست بشرة وجهي أنفاس رقيقة لم أتبين في البداية مصدرها. ثم بدأت شيئا فشيئا أتبين ملامح صاحبة هذه الأنفاس الرقيقة الناعمة...إنها فتاة ذات ملامح اسياوية بصدد قطف أوراق شجيرات الشاي وترمي بها في كيس كبير خلف ظهرها. وتلاعب نسائم آخر غشي أطراف جدائل شعرها الفاحم المطلة من جوانب خمار ذي ألوان زاهية، وما انفكت عن الالتفات من حين لآخر نحوى باسمة الثغر، مشرقة العينين اللتين فيهما حور، يعاجلها الحياء فتسبل جفنيها، وتتفتح أكمام ورود وجنتيها مع بوادر بسمة جذلى على شفتين قرمزيتين، و إني لأراها تنتقل بحركات رشيقة في دروب الحقل متلقية تحايا النباتات من حولها، ومصغية لهمس النسغ المتدفق بعد قطف أوراق شجيرات الشاي. ولم يفتني أن أسجل تمايل أوراق الشاى، فرحة أن تكون نهايتها بين يدى حسناء، مفاخرة بذلك مثيلاتها النابتة على مصطبات الجزر اليابانية حيث تتولى قطفها آلات صماء خلو من دفء المشاعر الإنسانية، وبعيدا عن حسن الأنوثة وحيائها الشرقي اللذيذ.
وعلى إثر بلوغ رجع صدى آذان المغرب الآتي من بعيد، تتوقف الفتاة رافعة هامتها، وتمد بصرها إلى الأفق إلى حيث تمتد حقول الشاي مندمجة مع شقائق النعمان التي نثرتها شمس الأصيل في غيبتها وتخضب بها المدى.
و ترسل الفتاة أنفاسها الدافئة، تعبيرا عن تعب نهار طويل، فأجد أثرها على صفحة وجهي. وتفد إذاك على دماغي رسائل من البصيلات الذوقية في لساني معلنة عن طعم حموضة لا أتبين لها سببا. وإذ يتأكد الإحساس ويشتد حضوره في الذهن، أكتشف أنني كنت بصدد ترشف أولى قطرات الشاي الذي خالطه ما تسرب إليه من ليمون.
وإذا صوت أمي يطرق مسمعي:
أين كنت يا بني؟
فلا أجد في خاطري إلا أن أتوجه أليها سائلا: ذكريني يا أمي بالقائل « أن الفلاحين يحسنون فهم كلام الطبيعة».
- إنه ادونيس، أنسيته؟ وإنهم ليحسنون التحاور معها.